د. جاسم الياقـوت

لعب الإعلام دورا كبيرا ومهما في حياة الشعوب والأمم منذ نشأة التاريخ.. والإعلام وسيلة اتصالية تناقل استخدامها عبر العصور، فلو عدنا للحضارات الإنسانية القديمة وما وصل إلينا من مخلفاتها سنجد أنهم استخدموا الإعلام في علاقاتهم وفي تسيير شئونهم وفي توثيق مناحي حياتهم.

أفرزت التطورات في العالم الغربي خلال القرنين الماضيين تعبيرا يشير الى سلطة جديدة، هي سلطة أمر واقع يرتبط بحركة الجماهير، التي أصبحت، في مراحل معينة، قوة قادرة على الضغط وأصبح لحركة الجماهير تلك اسما جديدا هو الرأي العام، وبدأ بروز تعبير الإعلام كسلطة نادى به البعض بحماس كبير. والإعلام قد يرفع أقواماً ويهاجم آخرين، وقد يؤجج صراعاً أو يدفع للأمام أو يهدم أمام ومجتمعات عبر طرح الأكاذيب والانسياق وراءها.

والإعلام شأنه شأن أي قضية ورسالة، يحتاج إلى تحمل عبء الأمانة عن قناعة ورضا وإيمان بأهميته والمسؤولية الإعلامية.

ولكن الرسالة الإعلامية الهادفة والنبيلة؛ قد تتأثر بالخضوع أمام المغريات المادية التي يمتلكها رجال المال والأعمال، وبالتالي تفقد هذه المؤسسات حياديتها ومصداقيتها وتنتهج السبيل الذي تفرضه من خدمة أجندات خاصة ومصالح ذاتية.

كذلك الإعلام غير المنضبط تربويا دفع بالأطفال لدخول عالَمَ الكبار قبل الأوان فيما يسمَّى بـ «اختراق المرحَلة العمريَّة»، دون أن تتوفَّر لديهم الخبرة اللاَّزمة لذلك. وأصبح الأطفال والمراهقون يرون أكاذيب تبث بشكل إعلامي جذاب فيخلط عليهم الحقائق دون التحقق من واقع ما يشاهدونه أو التأكد من مواقف هي بالأساس خاطئة، فيدفعهم ذلك إلى اتخاذ اعتقادات خاطئة والتصرف بشكل يضر بالمجتمع قبل أن يضر بهم أنفسهم.

إن الإعلام ينبغي أن يكون عميق الفكرة، غزير المضمون، قويًا في الطرح من غير تعقيد، واضح الأسلوب من غير سطحية أو استخفاف للعقول،. يهتم بالأفعال المنفذة لا بالأقوال، الندوات والمناظرات وحلقات النقاش..، ما هي إلا طرح للعقول والخبرات، فإن لم يكن القصد من ورائها الوصول إلى ثمرات عملية في النفس أو المجتمع، فهي ضرب من النقاش والبحث المذموم، كما قال الإمام الشاطبي: "الاشتغال بالمباحث النظرية التي ليس لها ثمرة عملية مذموم شرعًا"؛ لأنها ستكون مضيعة للوقت والجهد، وشغلا للعقل عما هو أجدر أن يُشغل به. وقال الشاطبي فيما يتعلق بالعلم: "خذ من العلم لبَّه، ولا تستكثر من مُلَحه، وإياك وأغاليطه"،

لقد تحول الإعلام من أداة لتسجيل الأحداث إلى أداة لخلق الواقع، وذلك من خلال زيادة نسبة الإقبال التي أصبحت بمثابة "الهوس الإعلامي" لدى القنوات، ما جعل المنطق التجاري يفرض نفسه على الإنتاج الثقافي، ما جعل هذا الإنتاج ذا القيمة التاريخية العظمى يتعرض لتهديد حقيقي، فالإنتاج الثقافي لم يكن أبداً يقدر بعدد مناصريه وأتباعه، ولكن بجودته وقدرته على الاستمرار والبقاء.

ومع التطورات التكنولوجية الكبيرة أصبح هناك سؤال ملح.. هل ستختفي المؤسسات الصحفية أو ستتحول على المحتوى والمجالات الإلكترونية؟ إلا أن الإجابة تأتي بأن العمل الإعلامي لا ينجح بالفردية بل بالعمل المؤسسي! والوسائل الالكترونية في أغلبها تعتمد على الفردية، وما يميز العمل الإعلامي هو العمل المؤسسي وتنظيم الرؤية والهدف.

والتأثير الإعلامي خفي في مضمونه، قوي في محصلته، الأمر الذي يصفه الخبراء بـ «قوة الضغط الناعمة» التي ترجع سطوتها من قدرة الإعلام على الاستمالة، والإقناع، والتنوع، والتكرار، والجاذبية، والإبهار، والانفتاح، وإشباع حاجات المتلقي، وقدرته على التغلغل في حياتنا، ومواكبته للأحداث التي تمر بنا، ومؤخرا قابليته لتفاعل المتلقي، سواء على المواقع الالكترونية، أو الاتصالات الهاتفية المباشرة مع مقدمي البرامج الفضائية.

قد بات الإعلام صاحب دور محوري، وأضحى صناعة لها فنونها ومهاراتها وميزانياتها، بل يعتبر دليلا على التحضر والعصرية ومواكبة التقدم، والأمة التي لا تضعه في دائرة اهتمامها القصوى حتما سيفوتها القطار